أفانين
السيرة الهلالية
التحقيقات واللقاءات

هل تعرّضت السيرة الهلالية للإقصاء في ليبيا ؟

 مهنّد سليمان

إن السير الشعبية عادة ما تحتل مكانة متميزة في الذاكرة الجمعية للمجتمعات سيما العربية والإسلامية منها؛ فمن مَعينها يرتبط الوعي بخيوط الماضي وتجاربه المختلفة، وفي هذا الصدد أخذت السير الشعبية أشكالا وصيغا عديدة ومتنوعة تبعا لتطور الأنساق المجتمعية، ومستوى احتياج الفرد والجماعة لتلقي حكايات وأخبار هذه السير باعتبارها تشكل مخزونا أدبيا ومعرفيا يُغذي مستقبلات الذائقة للتماس مع سرديات الأسلاف.

ونتوقف في هذه التوطئة عند السيرة الهلالية بغية تسليط الضوء على مدى حضورها وأثرها في الدراسة والبحث وكذا لدى ذاكرة الليبيين؛ فإن اللافت في هذه الحساسية إغفال أو لنقل تهميش البُحاث والمهتمين الليبيين دراسة واستقصاء ملابسات السيرة الهلالية بكل ما تحمله من زخم ملحمي وتراثي عريق، لذا إرتأينا من خلال هذا الاستطلاع أن نلقي حجرا صغيرا في البِركة الآسنة في محاولة لفتح نافذة جديدة تضيء المناطق المظلمة عبر استنطاق نخبة من الأساتذة والبُحّاث.

د. حسن الأشلم

يعزي الباحث الدكتور حسن الأشلم أستاذ الأدب والنقد بجامعة مصراتة إلى أن غياب السيرة الهلالية عن الذاكرة الجمعية لا ينفصل عن غياب المنظومة السردية الشفهية بصفة عامة لعوامل عدة لعل أهمها غياب مقام الراوي أو السارد الشفاهي أو الحكواتي والتغيرات الاقتصادية والاجتماعية ودخول العولمة الرقمية.
لكن الأمر يبدو أكثر وصَوحا في السيرة الهلالية حتى قبل هذه التغيرات وهذا عائد في اعتقادي لطبيعة السيرة الهلالية نفسها من جهة اتساع النص وارتباطها بالشعر في كثير من لوحاتها مما يتطلب وجود الراوي الحافظ أو الراوي القاريء… لذلك كانت السيرة الهلالية تتداول كلوحات مجزأة كالحديث عن بوزيد أو الجازية أو دياب… كذلك تحضر في منظومة الأمثال والتشببهات.. أيضا في منظومة الأسماء… لكن في ظل التحولات المتسارعة لا أظن أن هذه الشذرات سوف تظل طويلا هذا إن لم تكن قد اندثرت فعلا.

فيما أضافت الدكتورة فاطمة غندور بالقول: السير الشعبية على تعددها كفن سردي ، ارتبطت في زمن مضى بجلسات وأمسيات السمرحيث التقاء حفظتها بالناس (مرسل ومستقبلون يتفاعلون بمشاعرهم المتضاربة حسب أحداث السيرة ) في دراستي للحكاية الشعبية الليبية ،طرحت سؤال فنون السرد في ثقافتنا وتحديدا بالجنوب الليبي فأعلمتني راوية حكايات أنها تعلمت الروي من سيدة اسمها ” زينب بارينا” كانت تروي سيرة بني هلال ،وواقعة كربلاء نفتقدها اليوم ، فطقس رواية السيرة لم يعد يتوافر مناخه، كما حفاظ السيرة لجيل مضى، ولم يترك رواة مستقبليين !

د. فاطمة غندور

وأوضحت الدكتورة فاطمة أن المتغيرات الاجتماعية وحتى الاقتصادية ألقت بثقلها التحولات المدينية، وضعت ضوابط لإلتقاء الناس بعضهم ببعض ،ألغت طقوس جلسات السمر العفوية الجماعية ، وصارت عزلة كل عائلة عن عائلات أخرى عنوانا لتوجهات مستقلة في خيارات المتع والترفيه، راديو، تلفزيون…. موبايل..وجدوا فيها سيرتهم !.أشهر سيرة عرفتها الثقافة الشعبية في ليبيا سيرة بني هلال ، تم توثيق بعض رواياتها على مستوى ليبيا في أطروحة دكتوراة أنجزها الاستاذ علي برهانة ،وصارت مرجعية للدراسات الشعبية العربية ،حول هذه السيرة في الشمال الأفريقي. اللافت أن الجارة مصر لم تكتف بتوثيقها، بل حصل تواصل بين أجيال حفظتها ،فعقدت لها مهرجانات تكاد تكون دورية سنوية تعهدها رواتها في الارياف، نموذج الشاعر عبدالرحمن الابنودي ،رفقة فرق تعزف ألحان النصوص الشعرية للسيرة ،وتبث على التلفزيون الذي حفظها في أرشيفه سأشير ‘لى ما تبقى من السير الشعبية ،سنجدها في محفوظ قولي بين الناس عندما يضربون مثلا يعادل معنى المثل الوارد بالسيرة كأنك يازيد ماغزيت..أو التشبيه البطولي بشخص أبوزيد الهلالي ،كما نموذج المرأة الشجاعة أنها الجازية الهلالية..وغير ذلك .

د. علي برهانة

بينما لفت الباحث الدكتور علي برهانة أثناء حديثه بالتأكيد على وجود تقسيم واضح في الحياة الثقافية العربية: “لدينا ثقافة رسمية، ممثلة في الكتب المكتوبة باللغة الفصحى، تحظى بالاحترام والتقدير والإقبال. وفي المقابل، هناك الثقافة الشعبية، سواء كانت شفهية أو مكتوبة، ينظر إليها نظرة دونية وتُعتبر – للأسف – أدب العوام.” وضرب مثالاً على ذلك بتجربته الشخصية مع كتابه ” في الحكايات الشعبية” الذي طُبع في تونس وسعى لتوزيعه في ليبيا. يروي قائلاً: “حين عرضت الكتاب على مكتبة الفرجاني، فوجئت بأحد موظفيها يقول لي: ضع عليه أربعة دنانير لعل أحدًا يشتريه! هذا يعكس كيف يُنظر إلى هذا النوع من الكتب باعتباره بلا قيمة سوقية أو معرفية.”

واستشهد الدكتور برهانة بموقف مشابه رواه الدكتور سعيد يقطين، حيث نُقل عن بعض الفقهاء قديماً قولهم بعدم جواز شهادة أو إمامة من يقرأ كتب السير الشعبية مثل سيرة عنترة وألف ليلة وليلة وسيرة ذات الهمة، وأكّد الدكتور برهانة أن الجامعات العربية – والليبية على وجه الخصوص – كرّست نظرة دونية وإقصائية فيما يتصل بدراسة السير الشعبية، قائلاً: “قدمت بحثًا في جامعة سبها بعنوان: الدرس الشعبي بين الدونية والإقصاء، لأن هذا التراث لطالما اعتُبر أدبًا هامشيًا لا يليق بالمثقف أن يتعاطاه.” وأضاف الدكتور برهانة أن الحكاية الشعبية ضمن المناهج الدراسية تغيب تماما رغم دعم الغالبية للفكرة.

ومشيرا أيضا إلى دور الاستعمار في إبراز قصص ألف ليلة وليلة بينما هُمشت من قبل العرب، وحسب الدكتور برهانة هذه السير رغم تجاهلها الرسمي، لعبت دورًا بارزًا في تشكيل المخيال العربي ونقل صورة عن الفروسية وأسلوب الكرّ والفرّ في الحروب، مستشهدًا بما ورد في المصادر التاريخية حول أبطال العرب وكذلك دور بني هلال في شمال إفريقيا.

وفي معرض تشخيصه يعتقد الدكتور برهانة بأن أحد عوامل تجاهل وتهميش السيرة الهلالية يأتي جراء النظرة الاستعلائية للبادية مما قلص بالتالي من انتشارها وتأثيرها الأمر الذي جعلها في ليبيا تحتضر، وأردف بالقول: إن أول من جاء على ذكر السيرة الهلالية هو ابن خلدون إبان القرن الرابع عشر ميلادي، وابن خلدون أشار إلى ان السيرة الهلالية بدأت في شمال إفريقيا وتحديدا في ليبيا وتونس وشرق الجزائر

أ. حسين المزداوي

مؤكدًا أنه لم يعد هنالك اليوم رواة بالمعنى الحقيقي نظرا لأن السيرة مقسمة إلى مواقف فكل موقف منها يتناول قصة ووجه اختلافها عن السير الأخرى يكمن في أنها سيرة شعرية في جميع أقطار العالم العربي باستثناء بعض البلدان التي لم يحكمها الأتراك كالمغرب وموريتانيا واليمن ففي هذه البلاد تغيب أي ملامح للسيرة الهلالية. كما بيّن الدكتور برهانة أن التعدد اللغوي بين الفصحى والعامية ليس صراعًا، بل تكاملًا، إذا ما أُحسن توظيفه لخدمة الهوية الثقافية الجامعة.

وفي المقابل تطرق الكاتب حسين المزداوي إلى مسألة التدوين، حيث أوضح أن البدو كانوا يعتمدون على الذاكرة الخصبة لنقل الحكايات، بينما استأثرت المدن بالمطابع ودور النشر، ففرضت سلطتها الثقافية وكرّست النظرة الاستعلائية تجاه ما أنتجه المجتمع البدوي، رغم ثراء صوره وعمق خياله، ويرى المزداوي أن السيرة الهلالية كانت موجودة بيد أنها نتيجة إهمال جمعها وتوثيقها لاسيما داخل الحواضر وإن كانت باقية إلى حد ما في المناطق البدوية، وأشاد المزداوي بجهد الشاعر الراحل عبد الرحمن الأبنودي في جمع تأريخ جوانب كبيرة من السيرة الهلالية في مصر

بدورها أوضح المزداوي أن السيرة الهلالية – كسائر السير الشعبية – لم تحظَ بالاعتراف إلا بعد أن اهتم بها المستشرقون والأوروبيون، الذين أعادوا تقديم ألف ليلة وليلة وعرّفوا بها العالم، حتى وصفها بعض النقاد العالميين بأنها “أهم كتاب في التاريخ الإنساني”.

ذات صلة

الشاعر المغربي صالح لبريني: الكتابة سفر حول مدارات الجنون وعبور نحو اللامحدود

suwaih

حوار وحكاية إبداع مع المثقفة والإعلامية سهام بوراكة

suwaih

طرابلس ورمضان وموائد الرحمن: عادات وتقاليد سمحة تميز المدن عن بعضها البعض توشك أن تندثر!!

suwaih

حوار مع الكاتب عبدالحي كريط

suwaih

هود الأماني حصاةٌ تشرحُ الاخضرار

suwaih

عائشة الأصفر: تناول المقموعين والمهمشين من همومي الجوهرية

suwaih

اترك تعليقًا

* باستخدام هذا النموذج فإنك توافق على تخزين بياناتك ومعالجتها بواسطة هذا الموقع.

أفانين مساحة ثقافية تُعنى بالفنّ والفكر والإبداع بكل أشكاله.