أحمد الفيتوري
1-
لا يعرف الكثير من المثقفين بلدانهم، وإن كانوا يدّعون ذلك، من جهة باعتبار معرفة الأنا تكون بمعرفة الآخر، ومن جهة أخرى هم أبناء للنظرية الأنثروبولوجية، التي كانت حسب نظرة إدوارد سعيد، قد تطورت لدواعٍ استعمارية، ومن هذا فإنها العلم الذي تعرض لسرير بروكست، ما يستدعي تمطيط هكذا علم، أو تقصيره حسبما دواعي الحاجة.
وقد لاحظ منظرو ما بعد الاستعمار، مَنْ إدوارد سعيد أحد ثقاتهم، أن هذا العلم حصيلته أسست على تزييف للتاريخ، وتحوير للجغرافيا. مما جعل ريجيس دوبريه، يرى أن الحدود كانت متاريس الجغرافيا السياسية، التي تضع علامات للعلم ومحددات للثقافة، لا يحيد عنها إلا متى كان علما محضا يتخطى الحدود. فالجغرافيا في هذه الحالة، علم الأرض وتضاريسها، وتوأمها علم التاريخ، ما يعتقد ابن خلدون، أنه علم العمران البشري، الذي على خصام مع السياسة والأيديولوجيا، ما يحيكان التاريخ حسب ضرورة ما أو معتقد ما.
لعل ما تقدم يختزله المثل الشعبي الليبي، القائل إن «الدولة أرض والعرب طيور»، وقبل فإن الليبيين يستخدمون مفردة «العرب» في مقابل مفردة «الناس»، وتأويل المثل عندي، أن الدولة تنتمي للجغرافيا فيما الناس للتاريخ.
لكن جغرافيا الدولة، محصورة في فصيل من علم الجغرافيا الرحب، هو ما يعرف بعلم الجيوسياسي، وما هو فعل بشري، ويذكر مؤرخون أن الجغرافيا السياسية كما فعل قائد سكران، أو أنها ريشة الفراشة المحكومة، بمصادفات غير علمية، لأنها من فعل البشر، ولهذا اتفق في مرحلة ما بعد الاستعمار، أن تكون الحدود بين الدول كما كانت فترة الاستعمار، ومن هذا تخلقت معضلات عويصة غير قابلة للحل.
وإذا كان الناس «طيوراً»، في مقابل أن الدولة «أرض»، فإن التاريخ المتحرك، لا يمكن أن يتطابق، وسكون الجغرافيا، ومن ذا قد يشترك الناس في التاريخ، وهم في اللحظة لا يشتركون في الجغرافيا السياسية، التي لا يعرفها «أبوزيد الهلالي»، فيتنقل كيفما ومتى شاء في الجغرافيا / الطبيعة في الشمال الأفريقي، وهو السر المدفون، فالذاكرة الموشومة، بين «الناس الطيور»، مما يقشع عن الثقافة الوقوع في أسر الحدود، ولأن الثقافة نتاج الناس والناس طيور، فهي في المحصلة جذرها تاريخي، ووسيلتها لسان ذو أبجد مشترك كناقل، فالتاريخ، حسب المثالية الألمانية، اللغة فيه منزلة الوجود، حصان «أبوزيد الهلالي»، لغة مشتركة واحدة متنوعة بلهجاتها.
وعودا على بدء، حصان «أبوزيد الهلالي» في جغرافيا الشمال الأفريقي/ مصر والمغرب العربي، لا تعوقه تضاريس طبيعية، حتى الصحراء توفر له جزرا ماؤها في داخلها، كتصوير توينبي للواحة في بحر الرمال، فتكون مستراح السواح، ومنازل المهاجر حتى يستقر. ثم إن البحر المتوسط بساط الريح، سهل التنقل، كأداة الوصل في الشبكة العنكبوتية، ما تربط قارة الشمال الأفريقي بقارة الشمال، أوروبا، وذلك ما فعله بحر الرمال، مع قارة الجنوب، أفريقيا.
وفي هذا الحال الثقافة، منتوج الناس الطيور، تطير مع الناس، ولا تسكن على الأرض، كما الدولة، ومعنى هذا أن الطريق سالك وآمن، واللغة مشتركة، في تضاريس شمال أفريقيا، لمن استطاع إليه سبيلا، فالتنقل والهجرة ميسرة، حيث لم يكن ثمة حدود، ولا جوازات سفر حتى القرن العشرين، وهناك انسياب حتى الساعة، لمن يبتعد عن المسالك الرسمية، ولهذا المغربي في المشرق العربي، اسم يحمله كل قادم من غرب، فيما يشيع في المغرب العربي اسم المصري، للقادم من الشرق.
2-
قد لا يعرف الكثيرون، أن عبد الرحمن عزام عاش مقتبل العمر في ليبيا، وشارك في نضالها منذ البدء ضد الغزو الإيطالي، وذكر ذلك بإسهاب، في مذكراته التي أعدها الصحفي جميل عارف، تحت عنوان «صفحات من المذكرات السرية لأول أمين عام للجامعة العربية – عبد الرحمن عزام»، الطبعة الأولى، 2013م، الناشر الهيئة المصرية العامة للكتاب. وقد جاء في مقدمة المذكرات، أن قوات من المجاهدين الليبيين، هاجمت القوات الإنجليزية سنة 1915م، ونحجت في احتلال السلوم ومرسى مطروح، وأن عزام مع متطوعين مصريين كانوا ضمن قوة المجاهدين، وقد مكث عزام مع هذه القوات، ودخل إلى غرب ليبيا. ودارات معارك ضارية ضد الإيطاليين، أثناء الحرب الكبرى الأولى.
وذكر عبد الرحمن عزام أنه في سنة 1918م، نجح الوطنيون الليبيون في إعلان أول جمهورية عربية، وقد أطلقوا عليها «الجمهورية الطرابلسية»، وذكر أنه شارك في إعداد وثيقة إعلان هذه الجمهورية. وقد واصل بطبيعة الحال، وقوفه الحازم مع القضية الليبية، عند الاستقلال، منذ تأسيس جامعة الدول العربية، وتنصيبه كأول أمين عام لها، وذلك منذ 1946 حتى نيل ليبيا استقلالها 24 ديسمبر 1951.
وإثر سيطرة إيطاليا على ليبيا، عقب نهاية الحرب الكبرى الأولى، هاجر ليبيون مقتدرون إلى تونس ومصر وغيرهما، ولهذا ولد بالإسكندرية، الكاتب الليبي المعروف على مصطفي المصراتي، ودرس بالأزهر، وقد تمكن عقب نهاية الحرب الثانية 1946م، من العودة إلى ليبيا، حيث شارك في النضال السياسي عبر حزب المؤتمر، ثم انتخب عضوا بمجلس النواب، وأصدر جريدة الشعب، وقد بقيت وشائج المصراتي بمصر قوية جدا، وفيها طبع ونشر كتبا له، ومنها في سلسلة كتاب المعارف، ووطد علاقات قوية، بالكتاب والأدباء المصريين ومنهم طه حسين، كما شارك في الكثير من المناشط الثقافية، وهو يُمثل حلقة وصل قوية بين الوسط الثقافي في مصر وليبيا.
ومن هذا فالمصراتي عجينة، من روح الساخر والفكر النقدي، والسخرية ضرورة للعيش وللكتابة، لمواجهة الحياة الصعبة والجمود الفكري، المجتمعي في محيطه، والمدرسي كما في جامعة الأزهر، والناتج زخم متنوع وضرب في كل الضروب، هذا ساهم فيه الروح الساخرة، التي تكسر التأطير والحدود، وتستهدف اللحظة، فالظاهر من الظاهرة، كما غواية نزع القشرة الصلدة للفكر والمجتمع، وهذا يرفده ويعاضده روح التسامح، ما لب روحه وجوهر فكره.
