محمد سامي الكيال
دارت جدالات فكرية وفلسفية كبرى، منذ النصف الثاني من القرن الماضي، عن مسألة إبادة الحياة، وارتباطها بالتحديث والحداثة عموماً، ما أدى لفتح ملفات كبرى، مثل التنوير والمركزية الغربية والاستعمار والعلم والعقلانية والقومية والدولة، إلى درجة أنه لم يبق أي مفهوم أو ظاهرة حديثة بمنجى من النقد والتفكيك. وهو أمر متوقّع للغاية بعد الحرب العالمية الثانية، التي شهدت إبادات منظّمة، غير مسبوقة تاريخياً، وخاصة الهولوكوست، الذي كان الحدث الأكثر هولاً. وبعيداً عن الجدالات المألوفة عربياً، حول «الحداثة والهولوكوست» (نتيجة خيارات انتقائية أيديولوجياً في الترجمة) فإن مفهوم «الاستثنائية» Die Singularität، أي استثنائية حدث الإبادة، يظل أقل حضوراً في الكتابات العربية. أدى الجدل حول هذا المفهوم إلى صراعات فكرية مهمّة، لعل أشهرها «صراع المؤرخين» في ألمانيا في الثمانينات من القرن الماضي، حين قام الفيلسوف الشهير يورغن هابرماس بـ»إعلان حرب»، بحسب الوصف الصحفي، على اتجاهات معينة بين المؤرخين الألمان، حاولت «إضفاء الطابع التاريخي»، أو «نسبنة الهولوكوست» (جعله نسبياً، ضمن سياقات تاريخية أسبق للصدامات الاجتماعية والسياسية والدولية). وفي هذا الصراع، الذي دام حوالي سنة، وكُتبت فيه عشرات المقالات والدراسات، دافع هابرماس عن «الاستثنائية»، ليس فقط بوصفها مبدأً تاريخياً وفلسفياً، بل أساساً في تكوين الذات الألمانية، وهوية «الجمهورية الاتحادية» ورواياتها المؤسّسة. البعض رأى موقف هابرماس شديد التطرّف، بشكل غير معهود منه، فما الذي دفع مفكراً نقدياً من وزنه إلى تعريض نفسه لاتهامات، مثل استخدام سلطته المعنوية لفرض موقفه على المؤرخين، والتدخّل في حرية التعبير وحرية البحث العلمي؟
«الاستثنائية» تشير إلى الحدث الفريد، الذي لا يمكن مقارنته بغيره، ولا يجوز إضفاء طابع نسبي أو سياقي أو «تاريخي» مزيّف عليه، ويشكّل حدّاً أخلاقياً، والأهم حدّاً وجودياً، يقلب كثيراً من مفاهيمنا عن الذات والعالم، ولا تعود التجربة الإنسانية بعده كما كانت. ما أرداه هابرماس هو التأكيد على الهولوكست، بوصفه «الحدث» الذي لا يمكن تجاوزه بالنسبة للألمان، وكذلك العالم بأسره. إذ لا معنى لنسبنته ضمن تسلسل تاريخي ما؛ أو اعتباره «رد فعل» على سياسات وأحداث أخرى؛ أو مقارنته بظواهر مثل «الشمولية» أو «الاستبداد الشرقي»، أو حتى بجرائم مثل جرائم ستالين في الاتحاد السوفيتي، أو بول بوت في كمبوديا، فكل ما في الهولوكست فريد من نوعه، المنظور والمنطق والأيديولوجيا والممارسة والجهاز والأداء، والموضوع غير متعلّق حتى بعدد الضحايا، ولا جدوى من الدخول في مقارنات عدديّة مع مجازر أخرى، أو محاولة تضخيم أو تهوين عدد ضحايا الهولوكست، فالأساس هو الفرادة النوعيّة والوجوديّة للحدث. نتحدث عن إبادة منظمّة ومؤدلجة ومبقرطة، لها «علومها» وأخلاقياتها وجمالياتها، اعتبرت استئصال الحياة «حلّاً نهائياً»، وعقلانياً، لمشاكل كثيرة، من مسائل العرق وحتى مواجهة الرأسمالية، ومن «روح الأمة» وتوحيدها وحتى مسألة الأقليات و»المسألة اليهودية»، ونجحت بتحقيق أهدافها بكفاءة إدارية وسياسية وقانونية عالية، وعبر حشد طاقات شعب بأكمله، عايش الإبادة بلامبالاة أخلاقية. هذا غير مسبوق في التاريخ، ويطرح إشارات استفهام، شديدة الصعوبة والقسوة، بخصوص العقل الإنساني نفسه. ما يريده هابرماس ليس أسطرة الهولوكوست، وتحويله إلى فزّاعة أو تابو لا يمكن تعقّله، بل التنبيه والتأكيد على مفهوم قد يضيّعه المؤرخون، ويجب على البشرية أن تعقله، إذا أرادت التعلّم من دروس الماضي.
ولذلك فإن الاصطدام مع «التاريخية» المزيّفة ضروري، والموضوع ليس صراعاً بين الفلسفة وعلم التاريخ، وإنما مواجهة منهجيّة للنزعة التأريخية الزائفة. وبعيداً نسبياً عن «صراع المؤرخين»، قد يكون الهولوكوست بالفعل «الحدث الفريد»، بألف لام التعريف، الذي لا يمكن مقارنة أي مجزرة أخرى به، ولكنّ حديث هابرماس عن الحدّ الأخلاقي والوجودي لإبادة الحياة، وبالتحديد الإبادة الواعية والمصرّح عنها، والتي تعتبر نفسها «الحل» لكافة المشاكل، يمكن تطبيقه على حالات أخرى كثيرة، دون أن يعني هذا مساواتها بـ»استثنائية» الهولوكوست نفسه. الإبادة الجماعية ليست حدثاً تاريخياً عابراً، أو مجرد نتيجة لسياقات معقدة، يجب فهمها أو تفهّمها، وتوزيع المسؤوليات عنها بـ»موضوعية» زائفة، كما أنها ليست حدثاً نسبياً، أو يمكن نسبنته. الإبادة فيها كثير من الإطلاقية وليس النسبية، لأنها تريد أن تنهي، بالمطلق، كل سياق، وكل تاريخ، وكل وجود لآخر قابل للتواصل. بعد الإبادة لا يعود العالم إلى ما كان عليه، ولا يمكن أن يعود، بل ينبثق عالم جديد، ولذلك فهي «حدث وجودي» مؤسِّس، وأكبر من مجرّد حدث تاريخي.
يمكننا هنا أن نفهم أن الموضوع ليس ألمانياً، أو غربياً فحسب، فلإبادة الحياة حضورها الكبير في تاريخ منطقتنا، التي شهدت كثيراً من المجازر، المُرتكبة بهدف الإبادة الجزئية أو الكاملة لمجموعة ما، على أسس عرقية أو دينية أو إثنية (التعريف القانوني للإبادة الجماعية). بل هنالك تصريحات بالنيّة بالإبادة، في كتابات وهتافات وأحاديث، سمعها وقرأها ورآها معظم سكان المنطقة؛ وتبيحها، بل وتشجعها وتستخدمها، السلطات الحاكمة في حالات ليست بالقليلة. وكذلك فإن قضايا كثيرة، يفترض أن تكون عادلة، تحمل في طياتها نَفَساً إبادياً، معلناً أو مضمراً، تجاه مجموعات بشرية على الهوية، على مبدأ «قتلهم مشروع» أو «قتلهم أفضل»، باختصار «قتلهم الحل» أو جانب من الحل. فهل تأقلمت منطقتنا، وثقافتها، مع «الاستثنائية»؟ وكيف يمكننا التعامل مع «الاستثنائية» عموماً، في حال طغت اجتماعياً، وسط لا مبالاة عامة، سواء من النخب أو العوام؟
خبرة وجوديّة
تحمل كل مجزرة إبادة جماعية نمطاً خاصاً من «الخبرة الوجودية» إن صح التعبير، فهي لحظة انهيار كلي للقيم والمعنى في مجتمع ما، وليس فقط في مجتمعات الضحايا، بل في عموم «الأمة» التي أنتجت الإبادة، وخاصة إذا كانت إبادة داخلية، بحق مجموعات أقليّة، اعتُبرت زوائد أو أورام، واجبة الاستئصال، في جسد الأمة. ينهار مع الإبادة الإطار الذي كان يسمح بالعيش المشترك، أو يوفّر إمكانية الاندماج، أو على الأقل يمنع الصراعات فائقة الدموية، ويجرّم أخلاقياً ممارسات، مثل القتل الجماعي للمدنيين على الهوية، والاغتصاب، والتعذيب، والإذلال. يصبح البشر «في العراء»، نتيجة انكسار تجربتهم الثقافية والأخلاقية المألوفة.
لا يتعلّق الموضوع بعدد الضحايا، أو بأساليب القتل، بل بواقعة أن الحياة نفسها باتت مستهدفة، فقط بسبب الانتماء بالولادة إلى مجموعة معيّنة، هذا يعني أن «الأمة» لم تعد تستطيع أن تكوّن هويتها، وتحافظ على وحدتها، وتتجاوز تناقضاتها، إلا عبر الإلغاء الكامل لمن تعتبره آخَرَها. وهنا يتوزّع أبناء «الأمة» بين عدّة مواقف: منها إدراك هذا والاندماج به تماماً، عبر التحريض العلني والواضح. أو إدراكه دون التورّط المباشر به، بل تشكيل بيئة متواطئة مع الإبادة، عبر التبرير أو التهوين؛ أو الحديث عن كون الإبادة «ردة فعل» على شيء ما، مثل مظلمة تاريخية أو سياسية؛ أو تحميل المسؤولية للضحايا، وقادتهم؛ أو الغرق في حالة من اللامبالاة الأخلاقية؛ أو حتى الاحتجاج غير الجذري، والقبول بسلطات الإبادة، و»مناشدتها». في كل هذه الحالات، ما يزال المحرّضون والمبررون واللامبالون والمناشدون أبناء الأمة، يعيدون إنتاج إطارها السياسي والاقتصادي والثقافي، والسلطوي عموماً، المؤدّي للإبادة.
الموقف المغاير هو الصدمة، وهو المُنتِج الأساسي لـ»التجربة الوجودية»، إذ يشعر كثير من أبناء الأمة السابقين بالتوحّد مع الضحايا، ليس فقط نتيجة التعاطف الإنساني، بل إدراكاً بأن إطارهم الثقافي والأخلاقي القديم لم ينتج أي حاجز يمنع الأهوال، بل العكس صحيح، شرعنها، بل ربما أكسبها هالة بطولية أو رومانسية أو دينيّة أو عقلانية، ما يؤدي إلى خروج شامل من «الأمة»، وأحياناً من «الحضارة» المألوفة نفسها، ويترك نوعاً من الندوب الثقافية، التي لا تندمل، تطال مفاهيم الذات الفردية والجماعية نفسها. أدى هذا تاريخياً إلى انهيار قوميات ووطنيات وعقائد وأيديولوجيات، ليس فقط بعد الحرب العالمية الثانية، بل قبلها، بعد الحرب الأولى، حين تمرّدت عشرات الحركات السياسية والثقافية على ما سمّته «الحضارة البرجوازية»، ووصل الأمر حتى إلى تفكيك جمالياتها الكلاسيكية، فعرفنا موجات فنيّة، باتت اليوم مؤسِّسة لذائقتنا الجمالية، مثل الدادائية والسوريالية. كذلك شهدنا لاحقاً، في عصر التحرر الوطني، وبعد انهيار الامبراطوريات الاستعمارية التقليدية، موجات تمرّد على الأمم القائمة، بقيمها وأخلاقيتها وجمالياتها، ونمطها في العقلانية، وصل ذروته فيما يُعرف بـ»الثورات الشبابية» في نهاية ستينات القرن الماضي، والتي يعتبرها بعض المؤرخين فاتحةً لعصر «ما بعد الحداثة».
في منطقتنا، لم تترك مآسي الإبادة الجماعية الأثر نفسه، وهي ليست مغرقة في القدم، أو مجهولة، فالإبادة الإيزيدية مثلاً حدثت عام 2014، في عصر إعلامي فائق إن صح التعبير، وبتوافر عشرات الصور والتسجيلات، ليس فقط التي نشرها الإعلام العالمي، بل أيضاً الجهة التي ارتكبت المجزرة، أي تنظيم الدولة، الذي لم يبخل إطلاقاً في توفير المواد الإعلامية، التي توثّق أفعاله، وتقدّمها ضمن هالة دينية وبطولية. رأى أبناء الأمة آلاف القتلى والمعذّبين والنازحين، وعرفوا أسماء وصور كثيرات من السبايا، وتوفّرت لهم عشرات التقارير الحقوقية والإعلامية المعاصرة للحدث، رغم هذا لم نشهد حالة عامة من الصدمة، أو طرح أسئلة صعبة، واكتفت النخب السياسية والثقافية والدينية بمزيج من مقولات «لا يمثّل..» أو «المؤامرة» الغربية أو الإيرانية، أو «رد الفعل» على «المظلومية». ومرّت الإبادة ثقافياً وكأنها لم تكن.
عدم طرح الأسئلة الأعمق حول الإبادة، وهي بالتأكيد ليست منتج تنظيم واحد، أو «ردة فعل» على الاستعمار والاستبداد (الإيزيديون ليسوا «كولنيالية» أو «رجل أبيض» أو «حكم أقليّة»، بل أبناء واحدة من أكثر الأقليات استضعافاً) قد يشير إلى ما يمكن تسميته «البلادة الوجودية»، وهو ليس نعتاً قاسياً، إذا قارناه بهول الحدث، ولامبالاة النخب والعوام تجاهه. هنالك بالتأكيد في البناء الأيديولوجي لـ»الأمة»، ما يسمح بنيوياً بكثير من هذه البلادة، ويتيح تكرار الحدث مجدداً، بوصفه أمراً متوقعاً أو مبرراً، والأهم، قابلاً للنسبنة.
تفعيل الصدمة
من الصعب القبول بمرور الإبادات بشكل نسبي في الثقافة العربية المعاصرة، فهذا قد يوصل إلى نوع من الموقف العنصري: «ثقافة الناس» تتقبّل هذا، إذن فلندعه يمرّ، ولنأخذ البشر بحسب مستوى وعيهم، بل فلننتج لهم المبررات، وكأنهّم مجموعة من القُصّر، الأدنى أخلاقياً وعقلياً من بقية البشر. أو قد يؤدي حتى إلى موقف عنصري صريح: الثقافة العربية والإسلامية تنتج التوحّش والإبادة الجماعية، منذ نشأتها، وذلك لعلّة جوهرية فيها.
عرفت منطقتنا سياسةً وفكراً وأخلاقاً وفناً، ونمطها الخاص من التحديث، وهي ليست أدنى جوهرياً من غيرها، أو ثقافة همجيّة، أو قاصرة يجب «التسامح» معها. رفض «طفلنة» أو حتى «حيونة» العرب والمسلمين يستلزم ما يمكن تسميته «تفعيل الصدمة»، أي العمل الواعي والمُلح على تبيان أبعاد الهول، الذي لم ينجح نمط تحضّرنا في منعه أو إدانته، وهذا يتطلّب العودة إلى كل منظومات التحضّر، ليس لنقدها فحسب، بل لمحاسبتها بقسوة، وتفكيك البنى والعناصر المؤدية للإبادات، والموقف اللامبالي تجاهها، وصولاً إلى التجاوز النقدي لنمط «الأمة» الذي عرفناه.
تفعيل الصدمة سيحوي بالتأكيد أنماطاً من الاستثارة والاستفزاز، ولا يمكن أن يتم بادعاء كاذب لـ»العقلانية» أو «التوازن» أو «العلميّة»، لا يقود في نهاية المطاف إلا لأشكال جديدة من النسبنة، هذه المرة باسم «تفهّم الناس» أو «الثقافة»، أو حتى مناهضة الإمبريالية والمركزية الغربية. ولذلك لا بد من الاستعانة بأساليب وقوالب تعبيرية متعددة، ومنها التهكّم والهجاء والتجديف بـ»الثوابت» ونزع البديهيات، ولهذه الأساليب والقوالب مرجعيات متعددة، وتقليد طويل، سواء في التراث العربي الإسلامي، أو في اللغات العامية والفلكور الشفوي؛ أو حتى في تراث عصر التنوير، وفي المدارس النقدية الغربية التي ازدهرت في القرن الماضي.
في كل الأحوال، نحتاج إلى «تجربة وجودية» عميقة، تمسّ عالمنا الرمزي، وتفكيرنا السياسي، وفهمنا للذات، وتتعامل مع وعينا ولا وعينا. يمكن لمن يعتبر كل هذا ترفاً أن يبقى حيث هو، ويُعدَّ المبررات للمجزرة القادمة، التي «سيتفاجأ» بحدوثها. فهذا أيضاً تقليد قديم في «الأمة» منذ نشأة دولها، أي منذ مجزرة سميل في العراق عام 1933، وحتى ما بعد الإبادة الإيزيدية.
كاتب سوري
